ان تقسو عليك الظروف حتى تجبرك وتجرك جراً لترك مراتع الصبا ورفاق الطفولة ووديرالاحبة وبشاشة الاهل وتودع الحبيبة تلك السمراء التى اكل الصبر سنوات ربيعها وارهقها الانتظار والنظر الى ذلك البرق الخلب الذى لم يمطر الا الزوابع والرعود ... فما اقسى ان تترك كل ذلك وتحزم امتعتك وتتوجه الى المجهول هروباً من جحيم الواقع وصولاً الى عناء المجهول وانتهاء الى مقبرة الامانى ....
شاءات الاقدار ان نلتقى به شاب يربو عمره على الخامسة والعشرون .. . احرقه هجير الشمس ... وبدل ملامحه لفح السموم ... التقينا به فى صحراء قاحله مسحت الرمال معالمها .. لاح لنا من بعيد يبين ويختفى بين السراب ... قربنا منه ... ملامحه توحى بانه احد ابناء بلادى الذين قهرتهم الظروف ليكابدوا هذا الويل وذاك العناء ... ليرعى قطيعاً من الاغنام فى هذه الصحراء القاحلة ... ..
سلمنا عليه رد علينا السلام ... بصوت خرج من عمق الجوف يحمل حسرة والم ... لا ظل له الا ظل اذنه ... وحرارة الشمس فى اوجها ... صعد الينا فى السيارة ... بدانا معه الحديث ... اخرج الينا شهادة الجامعية ( بكالريوس فى اللغة الفرنسية ) ... وضعه الان يمتهن الرعى فى هذه الصحراء وهو جاهل بما يفعل تماماً ولكن يركب الصعب من لا زلول له .... رتبه لا يتعدى ( 420.000) فقط اربعمائة وعشرين الف جنيه سودانى اجمالاً ... حينها غضب زميلى وثار فى وجهه آلم تسئ الى وطنك بذلك دعك من نفسك ... اما كان من الافضل لك ان تعمل فى وطنك وفى اى مهنة ... بدل ان تغرق فى هذا الوحل ... ظل متماسكاً شابكاً اصابع يديه مع بعضهما البعض ... ولقد ظننت بان وراءه سراً قد حان ان يفشاه ... اراد ان يتحدث ولكن قصة فى الحلق منعته اى نعم منعته ... فتناول قارورة من الماء ... ومن ثم استغفر الله ... فقال يا اخى عن اى وطناً تتحدث ... فان كنتم تسمونة وطن فما رايته كذلك و لن اسميه وطن ... اما عن نفسى فقد ونعت بكل ما هو سئ ومسئ ... فمنذ تخرجى وقبل اربعة سنوات وبعد ان قضيت عام فى اداء الخدمة الوطنية ... ظللت من وقتها الهث وراء فرصة عمل وتحت اى مسمى وباى اجر حتى ولو رمزى لامسح عنى اسم ( فلان العاطل ) ... ولقداتعبنى هذا المسمى حتى غطى على اسمى الحقيقى ... وفترت خطاى من معاينة لاخرى ... وطرقت كل الابواب ... ولكن مصيبتى كانت اكبر من حجم ما تسمونة وطن ... ومرت الايام والشهور ومات بمرورها كل ما هو جميل ودفنت معها كل حلم جميل والاسرة ما زالت تنتظر منى ان اساهمها الحمل الثقيل الذى ارهق كاهل ابى ذو الخامسة والستون وانا اكبر اولاده البنين .... وها انذا اتسكع بحثاً عن وظيفة وباى مسمى ... ولكن حتى هذه تنمعت ( تنمع الحسناء ليلة زفافها ) ... فمرت الايام والشهور والسنة والسنتان ... ولقد مررت بكل انواع المعناة النفسية ... فانزويت عن نظرات الاهل والجيران والصحاب و الشامتين الذين يعتبروننى رمزاً وتعبيراً مجسداً للابن الفاشل الذى قضى سنوات من الدراسة لم تزده الا فشلاً على فشله وذلك بالنظر لبعض ابناء دفعتى الذين سمت بهم الحظوظ ارقى الوظائف واغدقت عليهم المال الكثير والمركز الاجتماعى ....
والاسوأ فى السنة الثالثة مرضت الوالدة واصيبت بداء عضال ولم استطيع ان امد يدى للاسرة ولم اساهم بشئ بل استعير منهم ( حق المواصلات حتى اصل الى المستشفى ) ... واقف الساعات امام باب المستشفى اتحين الفرصة للدخول المجانى .... والى ان انتقلت الى الدار الاخرة ظللت انظر اليها كالابلة ... حينها اظلمت امامى كل الدنيا ولعنت ذلك الكابوس الذى حل على ما تسمونة وطناً وان نطقتها مجازاً ... لن اسميه وطن انه مقبرة الموت .. انه الفقر .. وآنة الفقراء .. عويل المحرومين وصرخة المظلومين وخطاوى الحيارى وبيت المجانين ومفرخ المشردين وزفرات المؤمسات ... وصيحات السكارى ... لم ارى فيه غير جيفة تتقاتل عليها بعض الكلاب المسعورة كل يبتغى ان يفوز بالسمان فقد غارت العجاف ... انه جيفةً نتنه تعافها النسور الكواسر ويتهافت عليها بغاث الطير ... يرحل منها البلبل بعد ان ماتت خضر الغصون وينعق فى كهوفها الخربة الغراب ( اذا كان الغراب دليل قوم فلا هم وصلوا ولا وصل الغراب ) ..
وتحدثت الى نفسى كثيراً وتحسرت على ما مضى من عمرى وقررت ان افعل اى شئ ... وهذا ما فعلته ... ففى هذا الهجير احس براحة نفسية ... وعندما اتزكر ذلك الامس اغمض عينى لاوهم نفسى بانى فى ادغاس احلام
منقول ....